السبت، 27 سبتمبر 2014

حادي الارواح ( الباب الثالث عشر: في مكان الجنة وأين هي) لابن القيم الجوزية


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 


 الباب الثالث عشر: في مكان الجنة وأين هي

ص -65-   الباب الثالث عشر: في مكان الجنة وأين هي
 قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد إليه فيقبض منها وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد:" هو الجنة "وكذلك تلقاه الناس عنه وقد ذكر ابن المنذر في تفسيره وغيره أيضا عن مجاهد قال:" هو الجنة والنار" وهذا يحتاج إلى تفسير فإن النار في أسفل السافلين ليست في السماء ومعنى هذا ما قاله في رواية ابن أبي نجيح عنه وقاله أبو صالح عن ابن عباس الخير والشر كلاهما يأتي من السماء
وعلى هذا فالمعنى أسباب الجنة والنار بقدر ثابت في السماء من عند الله 
وقال الحارث بن أبي أسامة حدثنا عبد العزيز بن أبان حدثنا مهدي ابن ميمون حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف قال سمعت عبد الله بن سلام يقول: "أن أكرم خليقة الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وإن الجنة في السماء" رواه ابو نعيم عنه قال ورواه معمر بن راشد عن محمد بن أبي يعقوب مرفوعا ثم ساقه من طريق ابن منيع قال ثنا عمرو الناقد ثنا عمرو بن عثمان ثنا موسى بن أعين عن معمر به مرفوعا ثم ساق من طريق محمد بن فضيل ثنا محمد بن عبد الله عن عطية عن ابن عباس أنه قال: "الجنة في السماء السابعة ويجعلها الله حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة" 
وقال ابن منده ثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد الزبيري ثنا محمد



ص -66-   بن عبد الله عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله قال: "الجنة في السماء الرابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث يشاء والنار في الأرض السابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث يشاء".
وقال مجاهد قلت لابن عباس أين الجنة قال فوق سبع سماوات قلت فأين النار قال تحت سبعة أبحر مطبقة رواه ابن منده عن أحمد بن إسحاق عن الزبيري عن إسرائيل عن ابن أبي يحيى عن مجاهد 
وأما الأثر الذي رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس تنتشر في كل عام مرة وإن أرواح المؤمنين في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة 
فهذا قد يظهر منه التناقض بين أول كلامه وآخره ولا تناقض فيه فإن الجنة المعلقة بقرون الشمس ما يحدثه الله سبحانه وتعالى بالشمس في كل سنة مرة من أنواع الثمار والفواكه والنبات جعله الله تعالى مذكرا بتلك الجنة وآية دالة عليها كما جعل هذه النار مذكرة بتلك وإلا فالجنة التي عرضها السموات والأرض ليست معلقة بقرون الشمس وهي فوق الشمس أكبر منها 
وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع والله أعلم 
والحديث له لفظان هذا أحدهما والثاني "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله" وشيخنا يرجح هذا اللفظ وهو لا ينفي أن يكون درج الجنة أكبر من ذلك ونظير هذا قوله في الحديث الصحيح "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" أي من جملة أسمائه هذا القدر فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين 
ويدل على صحة هذا أن منزلة نبينا فوق هذا كله في درجة في الجنة ليس فوقها درجة



ص -67-   وتلك المائة ينالها آحاد أمته بالجهاد والجنة مقببة أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"
قال شيخنا أبو الحجاج المزي: "والصواب رواية من رواه وفوقه بضم القاف على أنه أسم لا ظرف أي وسقفه عرش الرحمن فإن قيل فالجنة جميعها تحت العرش والعرش سقفها فإن الكرسي وسع السموات والأرض والعرش أكبر منه
قيل: لما كان العرش أقرب إلى الفردوس مما دونه من الجنات بحيث لا جنة فوقه دون العرش كان سقفا له دون ما تحته من الجنات ولعظم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة كما يقال لقاريء القرآن "اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" وهذا يحتمل شيئين أن تكون منزلته عند آخر حفظه وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظة والله أعلم.

الباب القادم

الباب الرابع عشر: في مفتاح الجنة


لا تنسونا من صالح دعائكم ودعولي ولانفسكم لكي يدخلنا الله الجنة دون حساب ودون سابقة عذاب ودون عتاب

وان يجعلنا من اهل الفردوس الاعلى من الجنة امين  انه ولي ذلك والقادر عليه


حادي الارواح (الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب) لابن القيم الجوزية

الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب

ص -64-   الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب
روينا في معجم الطبراني أنبأنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصقر العسكري قالا أنبأنا إبراهيم بن المنذر الحرامي ثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حرام حدثني عبد الرحمن بن عياش الأنصاري حدثنا دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن المنتفق قال دلهم وحدثنيه أيضا أبو الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر أخرج وافد إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الجنة والنار قال: لعمر إلهك أن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن للجنة ثمانية أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما" وذكر الحديث بطولة وهذا الظاهر منه أن هذه المسافة بين الباب والباب لأن ما بين مكة وبصرى لا يحتمل التقدير بسبعين عاما ولا يمكن حمله على باب معين لقوله ما منهن بابان والله أعلم.


 

حادي الارواح( الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها وأنها ذات حلق) لابن القيم الجوزية


 الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها وأنها ذات حلق

ص -61-   الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها وأنها ذات حلق
روى الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} قال أبواب ترى وذكرا أيضا عن خليد عن قتادة قال أبواب يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها تتكلم وتكلم وتفهم ما يقال لها انفتحي انغلقي
وقال أبو الشيخ أنبأنا محمد بن عبد الله بن محمد القيسي أنبأنا محمد بن إسحاق أنبأنا أحمد بن أبي الحواري أنبأنا عبد الله بن غياث عن الفزاري قال لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب فباب يدخل عليه منه زواره من الملائكة وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء
وقد روى سهيل بن أبي صالح عن زياد النمري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر" وفي حديث الشفاعة الطويل من رواية ابن عيينة عن علي بن زيد عن انس قال قال رسول الله "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها" وهذا صريح في أنها حلقة حسية تحرك وتقعقع
وروى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آخذ بحلقة باب الجنة فيؤذن لي" ويذكر عن علي رضي الله عنه "من قال لا إله الله الملك الحق المبين في كل يوم مائة مرة كان له أمان من الفقر ومن وحشة القبر واستجلب به الغني واستقرع به باب الجنة"



ص -62-   فصل
ولما كانت الجنات درجات بعضها فوق بعض كانت أبوابها كذلك وباب الجنة العالية فوق باب الجنة التي تحتها وكلما علت الجنة اتسعت فعاليها أوسع مما دونه وسعة الباب بحسب وسع الجنة ولعل هذا وجه الاختلاف الذي جاء في مسافة ما بين مصراعي الباب فإن أبوابها بعضها أعلى من بعض
ولهذه الأمة باب مختص بهم يدخلون منه دون سائر الأمم كما في المسند من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرض مسيرة الراكب الجواد ثلاثا ثم أنهم ليضغطون حتى تكاد مناكبهم تزول"
وفيه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي" الحديث وسياتي بتمامه إن شاء الله تعالى
وقال خلف بن هشام البزار ثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق عن عاصم بن حمزة عن علي بن أبي طالب قال إن أبواب الجنة هكذا بعضها فوق بعض ثم قرأ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} إذا هم عندها بشجرة في أصلها عينان تجريان فيشربون من إحداهما فلا يترك في بطونهم قذى ولا أذى إلا رمته ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تشعث رؤسهم ولا تغير أبشارهم بعد هذا أبدا ثم قرأ {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيدخل الرجل وهو يعرف منزله ويتلقاها الولدان فيستبشرون برؤيتهم كما يستبشر



ص -63-   الأهل بالحميم يقدم من الغيبة فينطلقون إلى أزواجهم فيخبرونهم بمعاناتهم فنقول أنت رايته فيقوم إلى الباب فيدخل إلى بيته فيتكيء على سريره فينظر إلى أساس بيته فإذا هو قد أسس على اللؤلؤ ثم ينظر في أخضر وأحمر وأصفر ثم يرفع رأسه إلى سماء بيته فلولا أنه خلق له لا لتمع بصره فيقول الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والله أعلم



الجمعة، 26 سبتمبر 2014

حادي الارواح الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها لابن القيم الجوزية





الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها

ص -58- الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها
عن أبي هريرة قال وضعت بين يدي رسول الله قصعة من ثريد ولحم فتناول الذراع وكان أحب الشاة إليه فنهش نهشة وقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة ثم نهش أخرى وقال أنا سيد الناس يوم القيامة فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال ألا تقولون كيف" قالوا كيف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقوم الناس لرب العالمين فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر" فذكر حديث الشفاعة بطوله وقال في آخره "فانطلق فأتي تحت العرش فاقع ساجدا لربي فيقيمني رب العالمين مقاما لم يقمه أحدا قبلي ولن يقيمه أحد بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجرا أوهجر ومكة"
وفي لفظ "لكما بين مكة وهجر" أو "كما بين مكة وبصرى" متفق على صحته
وفي لفظ خارج الصحيح بإسناده إن ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر
وعن خالد بن عمير العدوي قال خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الدنيا قد أذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم ولقد ذكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ من الزحام فهذا موقوف والذي قبله مرفوع فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذاكر له كان هذا ما بين باب



ص -59- من أبوابها ولعله الباب الأعظم وإن كان الذاكر لهم ذلك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدم على حديث أبي هريرة المتقدم
ولكن قد روى الإمام أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمة الجريري يحدث عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله قال "أنتم توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ"
وقد رواه ابن أبي داود أنبأنا إسحاق بن شاهين أنبأنا خالد عن الجريري عن حكيم بن معاوية عن أبيه يرفعه "ما بين كل مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة سبع سنين"
وروينا في مسند عبد بن حميد أنبأنا الحسن بن موسى أنبأنا ابن لهيعة أنبأنا دراج أبو السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال ما من مصراعين في الجنة لمسيرة أربعين سنة
وحديث أبي هريرة أصح وهذه النسخة ضعيفة والله أعلم
وروى أبو الشيخ أنبأنا جعفر بن أحمد بن فارس أنبأنا يعقوب بن حميد أنبأنا معن حدثنا خالد بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الباب الذي يدخل منه أهل الجنة مسيرة الراكب المجود ثلاثا ثم انهم ليضطغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول" رواه أبو نعيم عنه وهذا مطابق للحديث المتفق عليه "إن ما بين المصراعين كما بين مكة وبصرى" فإن الراكب الموجد غاية الإجادة على أسرع هجين لا يفتر ليلا ولا نهارا يقطع هذه المسافة في هذا القدر أو قريب منه
وأما حديث حكيم بن معاوية فقد اضطرب رواته فحماد بن سلمة ذكر عن الجريري التقدير بإربعين عاما وخالد ذكر عنه التقدير بسبع سنين وحديث أبي سعيد المرفوع فيه التقدير بأربعين عاما على طريقة دراج عن أبي الهيثم



ص -60- قال الإمام أحمد أحاديث دراج مناكير وقال أبو حاتم الرازي ضعيف, وقال النسائي, ليس بالقوي, فالصحيح المرفوع السالم عن الاضطراب والشذوذ والعلة حديث أبي هريرة المتفق على صحته على أن حديث حكيم بن معاوية ليس التقدير فيه بظاهر الرفع ويحتمل أنه مدرج في الحديث موقوف فيكون كحديث عتبة بن غزوان.

حادي الارواح (الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب الجنة )لابن القيم الجوزية





الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب

ص -51- الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب الجنة
قال الله تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالدِين}
وقال في صفة النار {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بغير واو فقالت طائفة هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية وأبواب النار سبعة فلم تدخلها الواو
وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا تعرفه العرب ولا أئمة العربية وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين
وقالت طائفة أخرى الواو زائدة والجواب الفعل الذي بعدها كما هو في الآية الثانية وهذا أيضا ضعيف فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة
وقالت طائفة ثالثة الجواب محذوف وقوله "وفتحت أبوابها" عطف على قوله جاؤها وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم
قال المبرد:" وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم"
قال أبو الفتح بن جني:" وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ولا يجيزونه ويرون أن الجواب محذوف للعلم به
بقي أن يقال فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة وذكره في آية أهل النار فيقال هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم ففجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا



ص -52- إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزي فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول:" أنا لها" فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه
وإن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم
وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر عليه بخلاف ذلك ولئلا يتوهم الجأهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله عالية غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق له وهيئ له
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حده كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض
وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ويتأذى بعضهم ببعض وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحدا واحدا فلا تهمل تدبر قوله:"زمرا"

حادي الارواح الباب الثامن: في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة لابن القيم الجوزية


حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح



ص -47- الباب الثامن: في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة
قد تقدم في الباب الأول من ذكر الأدلة الدالة على وجود الجنة الآن ما فيه كفاية فنقول ما تعنون بقولكم إن الجنة لم تخلق بعد أتريدون أنها الآن عدم محض لم تدخل إلى الوجود بعد بل هي بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور فهذا قول باطل يرده المعلوم بالضرورة من الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تقدم بعضها وسيأتي بعضها وهذا قول لم يقله أحد من السلف ولا أهل السنة وهو باطل قطعا أم تريدون أنها لم تخلق بكمالها وجميع ما أعد الله فيها لأهلها وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر فهذا حق لا يمكن رده
وأدلتكم هذه إنما دلت على هذا القدر وحديث ابن مسعود الذي ذكرتموه وحديث أبي الزبير عن جابر صريحان في أن أرضها مخلوقة وأن الذكر ينشىء الله سبحانه لقائله منه غراسا في تلك الأرض وكذا بناء البيوت فيها بالأعمال المذكورة والعبد كلما وسع في أعمال البر وسع له في الجنة وكلما عمل خيرا غرس له به هناك غراس وبنى له بناء وأنشئ له من عمله أنواع مما يتمتع به فهذا القدر لا يدل على أن الجنة لم تخلق بعد ولا يسوغ إطلاق ذلك
وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} فإنما أتيتم من عدم فهمكم معنى الآية واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظيرا احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما فلا أنتم وفقتم لفهم معناها ولا إخوانكم وإنما وفق لفهم معناها السلف وأئمة الإسلام ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية



ص -48- قال البخاري في صحيحه:" يقال كل شيء هالك إلا وجهه إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجهه
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله:" فأما السماء والأرض فقد زالتا لأن أهلهما صاروا إلى الجنة وإلى النار وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب لأنه سقف الجنة والله سبحانه وتعالى عليه فلا يهلك ولا يبيد"
وأما قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} فذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فقالت الملائكة هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء فأخبر الله تعالى عن أهل السموات وأهل الأرض أنهم يموتون فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِك} يعني ميت إلا وجهه لأنه حي لا يموت فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت انتهى كلامه
وقال في رواية أبي العباس أحمد بن جعفر ابن يعقوب الاصطخري ذكره أبو الحسين في كتاب الطبقات قال قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل:"هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها والمقتدى بهم فيها من لدن أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق"
وساق أقوالهم إلى أن قال:" وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها و خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدا"
فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل كل شيء هالك إلا وجهه وبنحو هذا من متشابه القرآن قيل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت



ص -49- فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء العليا السابعة وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء وأن الله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى وما في قعر البحر ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصا والتراب والرمل ومثاقيل الجبال و أعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء وهو على العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نار ونور وظلمة وما هو أعلم بها فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقوله {وهو معكم أينما كنتم} وقوله {إلا هو معهم أينما كانوا} وقوله {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} ونحو هذا من متشابه القرآن فقل إنما يعني بذلك العلم لأن الله عز وجل على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان
وقال في رواية أبي جعفر الطائي محمد بن عوف بن سفيان الحمصي قال الخلال حافظ إمام في زمانه معروف بالتقدم في العلم والمعرفة كان أحمد بن حنبل يعرف له ذلك ويقبل منه ويسأله عن الرجال من أهل بلده
قال أملى على أحمد بن حنبل فذكر رسالة في السنة ثم قال في أثنائها وأن الجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء الخبر قال النبي صلى الله عليه وسلم صلىالله عليه وسلم "دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ورأيت الكوثر واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا...." فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن كافر بالجنة والنار يستتاب فإن تاب وإلا قتل



ص -50- وقال في رواية عبندوس بن مالك العطار وذكر رسالة في السنة قال فيها والجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا"
فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار
فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة ونحن اختصرنا الكلام في ذلك ولو بسطناه لقام منه سفر ضخم والله المستعان وعليه التكلان وهو الموفق للصواب.

الأحد، 21 سبتمبر 2014

حادي الارواح (الباب السادس: في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم)



 بسم الله الرحمن الرحيم 

الباب السادس: في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم

ص -42-   الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم
قالوا: أما قولكم: إن الله سبحانه أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة.
وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ليلة الإسراء وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة وهذا غير الدخول الذي اخبر الله به في يوم القيامة فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد؟
قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العري والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام.
ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها فلا تنافي بين الأمرين.
وأما قولكم: إنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه إنما تمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنين يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف وأما وقوع التكليف فيها دار الدنيا فلا دليل



ص -43-   على امتناعه البتة كيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" دخلت البارحة الجنة فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن أنت" الحديث.
وغير ممتنع أن يكون فيها من يعمل بأمر الله ويعبد الله قبل يوم القيامة بل هذا هو الواقع فإن من فيها الآن مؤتمرون بأوامر من قبل ربهم لا يتعدونها سواء سمى ذلك تكليفا أو لم يسم.
الوجه الثاني: أن التكليف فيهالم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليهما في شجرة واحدة من جملة أشجارها إما واحدة بالعين أو بالنوع وهذا القدر لا يمتنع وقوعه في دار الخلد كما أن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها فإن أردتم بكونها ليست دار تكليف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل عليه وإن أردتم أن تكاليف الدنيا منتفية عنها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم.
وأما استدلالكم بنوم آدم فيها والجنة لا ينام أهلها فهذا أن ثبت النقل بنوم آدم فإنما ينفي النوم عن أهلها يوم دخول الخلود حيث لا يموتون وأما قبل ذلك فلا.
وأما استدلالكم بقصة وسوسة إبليس له بعد إهباطه وإخراجه من السماء فلعمر الله إنه لمن أقوى الأدلة وأظهرها على صحة قولكم وتلك التعسفات لدخوله الجنة وصعوده إلى السماء بعد إهباط الله له منها لا يرتضيها منصف ولكن لا يمتنع أن يصعد إلى هنالك صعودا عارضا لتمام الابتلاء والامتحان الذي قدره الله تعالى وقدر أسبابه وإن لم يكن ذلك المكان مقعدا له مستقرا كما كان وقد أخبر الله سبحانه عن الشياطين أنهم كانوا قبل مبعث رسول الله صلىالله عليه وسلم يقعدون من السماء مقاعد للسمع فيستمعون الشيء من الوحي وهذا صعود إلى هناك ولكنه صعود عارض لا يستقرون في المكان الذي يصعدون إليه مع قوله تعالى{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} فلا تنافي بين هذا الصعود وبين الأمر بالهبوط فهذا محتمل والله أعلم 
وأما استدلالكم بأن الله سبحانه أعْلَمَ آدم عليه السلام مقدار أجله وما ذكرتم من الحديث وتقرير الدلالة منه



ص -44-   فجوابه أن إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنة الخلد وإسكانه فيها مدة وأما إخباره سبحانه إن داخلها لا يموت وإنه لا يخرج منها فهذا يوم القيامة
وأما احتجاجكم بكونه خلق من الأرض فلا ريب في ذلك ولكن من أين لكم أنه كمل خلقه فيها وقد جاء في بعض الآثار أن الله سبحانه ألقاه على باب الجنة أربعين صباحا فجعل إبليس يطوف به ويقول لأمر ما خلقت فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك فقال لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط علي لا عصينه مع أن قوله سبحانه {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يدل على أنه كان معهم في السماء حيث أنبأهم بتلك الأسماء وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرض حتى سمعوا منه ذلك ولو كان خلقه قد كمل في الأرض لم يمتنع أن يصعده سبحانه الى السماء لأمر دبره وقدره ثم يعيده إلى الأرض فقد أصعد المسيح إلى السماء ثم ينزله إلى الأرض قبل يوم القيامة وقد أسرى ببدن رسول الله وروحه إلى فوق السموات فهذا جواب القائلين بأنها جنة الخلد لمنازعيهم والله أعلم.

الباب القدم

الباب السابع: في ذكر شبه من زعم أن الجنة لم تخلق بعد

وفي الاخير لا تنسونا من صالح دعائكم

حادي الارواح ( الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول)




  
 الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول

ص -38-   الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول.
قالوا أما قولكم إن قولنا هو الذي فطر الله عليه عباده بحيث لا يعرفون سواه فالمسألة سمعية لا تعرف إلا بأخبار الرسل ونحن وأنتما إنما تلقينا هذا من القرآن لا من المعقول ولا من الفطرة فالمتبع فيه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ونحن نطالبكم بصاحب واحد أو تابع أو أثر صحيح أو حسن بأنها جنة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين بعينها ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا وقد أوجدناكم من كلام السلف ما يدل على خلافه ولكن لما وردت الجنة مطلقة في هذه القصة ووافقت اسم الجنة التي أعدها الله لعباده في إطلاقها وبعض أوصافها فذهب كثير من الأوهام إلى أنها بعينها فإن أردتم بالفطرة هذا القدر لم يفدكم شيئا وإن أردتم أن الله فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حسن العدل وقبح الظلم وغير ذلك من الأمور الفطرية فدعوى باطلة ونحن إذا رجعنا إلى فطرنا لم نجد علمها بذلك كعلمها بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات.
وأما استدلالكم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول آدم "وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم" فأنما يدل على تأخر آدم عليه السلام عن الاستقباح للخطيئة التي قد تقدمت منه في دار الدنيا وأنه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنة كما في اللفظ الآخر إني نهيت عن أكل الشجرة فأكلت منها فأين في هذا ما يدل على أنها جنة المأوى بمطابقة أو تضمن أو استلزام وكذلك قول موسى له أخرجتنا ونفسك من الجنة فإنه لم يقل له أخرجتنا من جنة الخلد.
وقولكم أنهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنة التي في الأرض فاسم الجنة وإن أطلق على تلك البساتين فبينها وبين جنة آدم ما لا يعلمه إلا الله وهي كالسجن بالنسبة إليها واشتراكهما في كونهما في الأرض لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوت في جميع الأشياء.



ص -39-   وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وقلنا أهبطوا} عقيب إخراجهم من الجنة فلفظ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض غايته أن يدل على النزول من مكان عال إلى أسفل منه وهذا غير منكر فإنها كانت جنة في أعلى الأرض فأهبطوا منها إلى الأرض.
وقد بينا أن الأمر كان لآدم عليه السلام وزوجه وعدوهما فلو كانت الجنة في السماء لما كان عدوهما متمكنا منها بعد إهباطه الأول لما أبى السجود لآدم عليه السلام فالآية أيضا من أظهر الحجج عليكم ولا تغني عنكم وجوه التعسفات والتكلفات التي قدرتموها وقد تقدمت.
وأما قوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فهذا لا يدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض فإن الأرض اسم جنس وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها في محل لا يدركهم فيه جوع ولا عرى ولا ظمأ ولا ضحى فاهبطوا إلى أرض يعرض فيها ذلك كله وفيها حياتهم وموتهم وخروجهم من القبور والجنة التي أسكناها لم تكن دار نصب ولا تعب ولا أذى والأرض التي أهبطوا إليها هي محل التعب والنصب والأذى وأنواع المكاره وأما قولكم إنه سبحانه وتعالى وصفها بصفات لا تكون في الدنيا فجوابه إن تلك الصفات لا تكون في الأرض التي أهبطوا إليها فمن أين لكم أنها لا تكون في الأرض التي أهبطوا منها وأما قولكم إن آدم عليه السلام كان يعلم إن الدنيا منقضية فانية فلو كانت الجنة فيها لعلم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}.
فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن اللفظ أنما يدل على الخلد وهو أعم من الدوام الذي انقطاع له فإنه في اللغة المكث الطويل ومكث كل شيء بحسبه ومنه قولهم رجل مخلد إذا أسن وكبر ومنه قولهم لأثافي الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الأطلال قال:

إلا رمادا هامدا دفعت    عنه الرياح خوالد سُحم



ص -40-   ونظير هذا إطلاقهم القديم على ما تقادم عهده وإن كان له أول كما قال تعالى:{ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} و{إِفْكٌ قَدِيمٌ} وقد أطلق تعالى الخلود في النار على عذاب بعض العصاة كقاتل النفس وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم على قاتل نفسه.
الوجه الثاني: أن العلم بانقطاع الدنيا ومجئ الآخرة أنما يعلم الوحي ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك وهو وأن نباه الله سبحانه وتعالى وأوحى إليه وأنزل عليه صحفا كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد إهباطه إلى الأرض بنص القرآن قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} وكذلك في سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدى}.
 وأما قولكم: إن الجنة وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وقولكم: إن السياق ها هنا دل على أنها جنة في الأرض.
قلنا: والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض فلذلك صرنا إلى موجبها إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصحيح. 
وأما استدلالكم بأثر أبي موسى أن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها فليس فيه زيادة على ما دل عليه القرآن إلا تزوده منها وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد. 
وقولكم: إن هذه تتغير وتلك لا تتغير فمن أين لكم أن الجنة التي أسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم أي لم يتغير ولم ينتن وقد أبقىالله سبحانه وتعالى في هذا العالم طعام العزيز وشرابه مئة سنة لم يتغير.



ص -41-   وأما قولكم: إن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم عليه السلام إن تاب أن يعيده إلى الجنة. فلا ريب أن الأمر كذلك ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عوده إلى تلك الجنة بعينها بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه بضمانه حق الوفاء ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها بل ولا إلى نظيرها كما قال شعيب لقومه {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا} وقد جعل الله سبحانه المظاهر عائدا بإرادته الوطء ثانيا أو بنفس الوطء أو بالإمساك وكل منها غير الأول لا عينه فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها.

الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض حادي الارواح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين 

 الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض

ص -32-   الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض.
 قالوا هذا قول تكثر الدلائل الموجبة للقول به فنذكر بعضها قالوا قد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد أنما يكون الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد وقد وصفها الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه بصفاتها ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفة ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها.
قالوا فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي أعدت للمتقين بإنها دار المقامة فمن دخلها أقام بها ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها ووصفها بإنها جنة الخلد وآدم لم يخلد فيها ووصفها بأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهى ووصفها بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان وقد ابتلى آدم فيها بأعظم الابتلاء ووصفها بأنها دار لا يعصي الله فيها أبدا وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها ووصفها بأنها ليست دار خوف ولا حزن وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل وسماها دار السلام ولم يسلم فيها الأبوان من الفتنة ودار القرار ولم يستقر فيها وقال في داخلها: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقد أخرج منها الأبوان وقال: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} وقد ند فيها آدم هاربا فارا وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه وأخبر أنه لا لغو فيها ولا تأثيم وقد سمع فيها آدم لغو إبليس وإثمه وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذاب وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب إبليس.وقد سماها الله سبحانه وتعالى مقعد صدق وقد كذب فيها إبليس وحلف على كذبه
وقد قال تعالى للملائكة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى فقالت الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ومحال أن يكون هذا في جنة المأوى.



ص -33-   وقد أخبر الله تعالى عن إبليس إنه قال لآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان الله سبحانه وتعالى قد أسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه ويقول له كيف تدلني على شيء أنا فيه وقد أعطيته ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد أخبر آدم إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس ولا مال إلى نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غرّه بما أطعمه فيه من الخلد.
قالوا ولو كان أدم أسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يسكنها إلا طاهر مقدس فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس المذموم المدحور حتى فتن فيها آدم عليه السلام ووسوس له وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه وإما أن تكون في أذنه وعلى التقديرين فكيف توصل اللعين إلى دخول دار المتقين وأيضا فبعد أن قيل له اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها أيفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط عليه والإبعاد له والزجر والطرد بعتوه واستكباره وهل هذا يلائم قوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ} فإن كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تكبرا فما التكبر بعد هذا؟.
فإن قلتم فلعل وسوسته وصلت إلى الأبوين وهو في الأرض وهما فوق السماء في عليين فهذا غير معقول لغة ولا حسا ولا عرفا وإن زعمتم أنه دخل في بطن الحية حتى أوصل إليهما الوسوسة فأبطل وأبطل إذ كيف يرتقي بعد الإهباط إلى أن يدخل الجنة ولو في بطن الحية؟
وإذا قلتم إنه دخل في قلوبهما ووسوس إليهما فالمحذور قائم وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى حكى مخاطبته لهما كلاما سمعاه شفاها فقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وهذا دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله تعالى له: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} ولم يقل عن هذه الشجرة فعندما قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة لما أطعمهما



ص -34-   في ملكها والخلود في مقرها أتى باسم الإشارة بلفظ الحضور تقريبا لها وإحضارا لها عندهما وربهما تعالى قال لهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ولما أراد إخراجهما منها فأتى باسم الإشارة بلفظ البعد والغيبة كأنهما لم يبق لهما من الجنة حتى ولا مشاهدة الشجرة التي نهيا عنها وأيضا فإنه سبحانه قال: {إليه يصعد الكلم الطيب} ووسوسة اللعين من أخبث الكلم فلا تصعد إلى محل القدس.
قال منذر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" أن آدم عليه السلام نام في جنته" وجنة الخلد لا نوم فيها بالنص وإجماع المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أينام أهل الجنة قال: " لا النوم أخو الموت والنوم وفاة" وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت.
قلت الحديث الذي أشار إليه المعروف أنه موقوف من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد قال خلقت حواء من قصيري آدم وهو نائم.
وقال أسباط عن السدي أسكن آدم عليه السلام الجنة وكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما أنت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إلي.
وقال ابن إسحاق عن ابن عباس ألقى الله على آدم عليه السلام السنة ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة يسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه فقال لحمي ودمي وروحي فسكن إليها.
قالوا ولا نزاع إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في موضع واحد أصلا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك ولو كان قد نقله ذلك إلى السماء لكان هذا أولى بالذكر لأنه من أعظم الآيات ومن أعظم النعم عليه فإنه كان معراجا ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السماوات.



ص -35-   قالوا وكيف ينقله سبحانه ويسكنه فوق السماء وقد أخبر ملائكته أنه جاعله في الأرض خليفة وكيف يسكنه دار الخلد التي من دخلها خلد فيها ولا يخرج منها قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} قالوا ولم يكن معناً في المسألة إلا أن الله سبحانه أهبط إبليس من السماء حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام وهذا أمر تكوين لا يمكن وقوع خلافه ثم أدخل آدم عليه السلام الجنة بعد هذا فإن الأمر بالسجود كان عقب خلقه من غير فصل فلو كانت الجنة فوق السموات لم يكن لإبليس سبيل إلى صعوده إليها وقد أهبط منها.
وأما تلك التقادير التي قدرتموها فتكلفات ظاهرة كقول من قال يجوز أن يصعد إليها صعودا عارضا لا مستقرا وقول من قال أدخلته الحية وقول من قال دخل في أجوافها وقول من قال يجوز أن تصل وسوسته إليها وهو في الأرض وهما فوق السماء ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الشديد والتكلف البعيد وهذا بخلاف قولنا فإنه سبحانه لما أهبطه من ملكوت السماء حيث لم يسجد لآدم عليه السلام أشرب عداوته فلما أسكنه جنته حسده عدوه وسعى بكيده وغروره في إخراجه منها والله أعلم.
قالوا ومما يدل على أن جنة آدم لم تكن جنة الخلد التي وعد المتقون أن الله سبحانه لما خلقه أعلمه أن لعمره أجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء كما روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بإذنه فقال ربه يرحمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقال السلام عليكم قالوا وعليك السلام ..الخ" ثم رجع إلى ربه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان أختر أيهما شئت فقال أخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته فقال يا رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب بين عينيه عمره فإذا فيهم رجل أضوؤهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود قد كتبت له عمرا أربعين سنة قال يا رب زده في عمره قال ذلك الذي كتبت له قال أي رب فإني قد جعلت له من عمري



ص -36-   ستين سنة قال أنت وذلك قال ثم أسكن الجنة ما شاء الله ثم أهبط منها فكان آدم عليه السلام يعد لنفسه قال فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت قد كتبت لي ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته قال فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود" قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة.
قالوا فهذا صريح في أن آدم عليه السلام لم يخلق في دار البقاء التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله تعالى لها ولسكانها أجلا معلوما وفيها أسكن.
فإن قيل فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمرا مقدرا وأجلا ينتهي إليه وإنه ليس من الخالدين فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وقوله أو تكونا من الخالدين؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء بل هو المكث الطويل كما سيأتي.
الثاني أن إبليس لما حلف له وغره وأطمعه في الخلود نسي ما قدر له من عمره.
قالوا وأيضا فمن المعلوم الذي لا ينازع فيه مسلم أن الله سبحانه خلق آدم عليه السلام من تربة هذه الأرض وأخبر أنه خلقه من سلالة من طين وأنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون فقيل هو الذي له صلصلة ليبسة وقيل هو الذي تغيرت رائحته من قولهم صل اللحم إذا تغير والحمأ الطين الأسود المتغير والمسنون المصبوب وهذه كلها أطوار للتراب الذي هو مبدؤه الأول كما أخبر عن أطوار خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم يخبر سبحانه وتعالى أنه رفعه من الأرض إلى فوق السماوات لا قبل التخليق ولا بعده فأين الدليل الدال على إصعاد مادته أو إصعاده هو بعد خلقه وهذا ما لا دليل لكم عليه ولا هو لازم من لوازم ما أخبر الله به؟



ص -37-   قالوا من المعلوم أن ما فوق السماوات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرائحة الذي قد أنتن من تغيره وإنما محل هذه الأرض التي هي محل المتغيرات الفاسدات وأما ما فوق الأفلاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولا فساد ولا استحالة فهذا أمر لا يرتاب فيه العقلاء.
قالوا وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.فأخبر سبحانه أن عطاء الجنة الخلد غير مجذوذ.قالوا: فإذا جمع ما أخبر به سبحانه من أنه خلقه من الأرض وجعله خليفة في الأرض وأن إبليس وسوس إليه في مكانه الذي أسكنه فيه بعد أن أهبطه من السماء بامتناعه من السجود له وأنه أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة وأن دار الخلد دار جزاء وثواب على الامتحان والتكاليف وأنه لا لغو فيها ولا تأثيم ولا كذاب وأن من دخلها لا يخرج منها ولا ييأس ولا يحزن ولا يخاف ولا ينام وأن الله حرمها على الكافرين وإبليس رأس الكفر فإذا جمع ذلك بعضه إلى بعض وفكر فيه المنصف الذي رفع له علم الدليل فشمر إليه بنفسه عن حضيض التقليد تبين له الصواب والله الموفق.
قالوا:ولو لم يكن في المسألة إلا أن الجنة ليست دار تكليف وقد كلف الله سبحانه الأبوين بينهما عن الأكل من الشجرة فدل على أنها دار تكليف لا جزاء وخلد فهذا أيضا بعض ما احتجت به هذه الفرقة على قولها والله أعلم.

الباب القادم

الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول

وفي الاخير لا تنسونا من صالح دعائكم


حادي الارواح (الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة)


 بسمالله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورجمة الله



 الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة

 -26- الباب الثالث: في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة
قالوا قولنا هذا هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم لم يخطر بقلوبهم سواه وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا.
قالوا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم". وذكر الحديث.
قالوا وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها.
وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى وقول موسى أخرجتنا ونفسك من الجنة ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا.
قالوا وقد قال تعالى في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}



ص -27-   فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين أحدهما من لفظة اهبطوا فإنه نزول من علو إلى سفل والثاني ولكم في الأرض مستقر عقب قوله اهبطوا فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض ثم أكد هذا بقوله في سورة الأعراف {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده.
قالوا وقد وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وهذا لا يكون في الدنيا أصلا فإن الرجل ولو كان أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعري والضحى فإن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فنفى عن سكانها ذل الظاهر والباطن وحر الظاهر والباطن وذلك احسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعري والضحى وهذا شأن ساكن جنة الخلد.
قالوا وأيضا فلو كانت تلك الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى.
قالوا وأيضا هذه القصة في سورة البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي أخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ



ص -28-   فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فهذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنة فلهذا أتى فيه بضمير الجمع وقد قيل إن الخطاب لهما وللحية وهذا ضعيف جدا إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم ولا في السياق ما يدل عليها وقيل الخطاب لآدم وحواء وأتى فيه بضمير الجمع كقوله وكنا لحكمهم شاهدين وهما داود وسليمان وقيل لآدم وحواء وذريتهما.
 وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول لأنها قول لا دليل عليه بين ما يدل اللفظ على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وأنه من المهبطين فإذا تقرر هذا فقد ذكر سبحانه الإهباط ثانيا بقوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والظاهر أن هذا الإهباط الثاني في غير الأول وهو إهباط من السماء إلى الأرض والأول إهباط من الجنة وحينئذ فتكون الجنة التي إهبط منها أولا فوق السماء جنة الخلد وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} قال ويدل على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم.
ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي



ص -29-   وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان.
وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا؟
وأما قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} وهذا خطاب لآدم وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمتخاطبين بالإهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:
أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط.
والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِك} وقال للذرية



ص -30-   {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}. 
وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع دون التثنية؟ وأما الإهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك.
والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قال قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط.
وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الإنس وأمهم فتأمله.
قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة



ص -31-   كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض:
فالأول كقوله: جنتين من أعناب.
والثاني: كقوله ولولا إذ دخلت جنتك. والثالث كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}.
قالوا: ومما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا.
وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذ عصاه رب إن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد ونحن نسوق حجج الآخرين.


 الباب القادم

الباب الرابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي جنة في الأرض 

الجمعة، 19 سبتمبر 2014

حادي الارواح ( الباب الثاني: في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام) لابن القيم الجوزية

 الباب الثاني: في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض؟

ص -22-   الباب الثاني: في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض؟
قال منذر ابن سعيد في تفسير قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فقالت طائفة أسكن الله آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له وأسكنه إياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به وقال أبو الحسن الماوردي في تفسيره: "واختلف الناس في الجنة التي أسكناها على قولين: أحدهما أنها جنة الخلد الثاني: أنها جنة أعدها الله تعالى لهما وجعلها ابتلاء وليست هي جنة الخلد التي جعلها دار جزاء" ومن قال بهذا اختلفوا فيه قولين:
أحدهما: أنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن
الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن بحر وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام والله أعلم بصواب ذلك هذا كلامه.
وقال ابن الخطيب في تفسيره المشهور واختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة أخرى فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني: "هذه الجنة في الأرض" وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} واحتجا عليه بوجوه.
القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة التي كانت في السماء السابعة.



ص -23-   والقول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب وقال أبو القاسم الراغب في تفسيره واختلف في الجنة التي أسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله تعالى له امتحانا ولم يكن جنة المآوى وذكر بعض الاستدلال على القولين.
وممن ذكر الخلاف أيضا أبو عيسى الرماني في تفسيره واختار أنها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو وواصل وأكثر أصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا أبي بكر وعليه أهل التفسير واختار ابن الخطيب التوقف في المسألة وجعله قولا رابعا فقال:
والقول الرابع: أن لكل ممكن والأدلة متعارضة فوجب التوقف وترك القطع قال منذر بن سعيد والقول بإنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد قول أبي حنيفة وأصحابه قال: وقد رأيت أقواما نهضوا لمخالفتنا في جنة آدم عليه السلام بتصويب مذهبهم من غير حجة إلا الدعاوى والأماني ما أتوا بحجة من كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ولا تابع ولا تابع التابع ولا موصولا ولا شاذا مشهورا.
وقد أوجدناهم أن فقيه العراق ومن قال بقوله قالوا أن جنة آدم ليست جنة الخلد وهذه الدواوين مشحونة من علومهم ليسوا عند أحد من الشاذين بل بين رؤساء المخالفين وإنما قلت هذا ليعلم أني لا أنصر مذهب أبي حنيفة وإنما أنصر ما قام لي عليه الدليل من القرآن والسنة هذا ابن زيد المالكي يقول في تفسيره سألت ابن نافع عن الجنة أمخلوقة هي فقال السكوت عن الكلام في هذا أفضل وهذا ابن عيينة يقول في قوله عز وجل: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} قال يعني في الأرض وابن نافع وإمام و ابن عيينة إمام وهو لا يأتوننا بمثلهما ولا من يضاد قوله قولهما.
وهذا ابن قتيبة ذكر في كتاب المعارف بعد ذكره خلق الله لآدم وزوجه قال:



ص -24-   ثم تركهما وقال أثمروا وأكثروا وأملؤا الأرض وتسلطوا على أنوان البحور وطير السماء والأنعام وعشب الأرض وشجرها وثمرها فأخبر أن في الأرض خلقه وفيها أمره ثم قال ونصب الفردوس فانقسم على أربعة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات ثم ذكر الحية فقال وكانت أعظم دواب البر فقالت للمرأة أنكما تموتان إن أكلتما من هذه الشجرة.
ثم قال بعد كلام ثم أخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ ثم قال قال وهب وكان مهبطه حين أهبط من جنة عدن في شرقي أرض الهند قال واحتمل قأبيل أخاه حتى أتى به واديا من أودية اليمن في شرقي عدن فكمن فيه وقال غيره فيما نقل أبو صالح عن ابن عباس في قوله أهبطوا هو كما يقال هبط فلان أرض كذا وكذا.
قال منذر بن سعيد فهذا وهب بن منبه يحكي أن آدم عليه السلام خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وإنه كان بعدن وإن أربعة أنهار أنقسمت من ذلك النهر الذي كان يسمى فردوس آدم وتلك الأنهار بقيت في الأرض لاختلاف بين المسلمين في ذلك فاعتبروا يا أولي الألباب وأخبر أن الحية التي كلمت آدم كانت من أعظم دواب البر ولم يقل من أعظم دواب السماء فهم يقولون إن الجنة لم تكن في الأرض وإنما كانت فوق السماء السابعة.
ثم قال وأخرجه من مشرق جنة عدن وليس في جنة المآوى مشرق ولا مغرب لأنه لا شمس فيها.
ثم قال وأخرجه إلى الأرض التي اخذ منها يعني أخرجه من الفردوس الذي نصب له في عدن في شرقي أرض الهند وهذه الأخبار التي حكى ابن قتيبة إنما تنبئ عن أرض اليمن وعن عدن وهي من أرض اليمن وأخبر أن الله نصب الفردوس لآدم عليه السلام بعدن ثم أكد ذلك بأن قال: التي أربعة الأنهار التي ذكرناها منقسمة عن النهر الذي كان يسمى فردوس آدم.



ص -25-   قال منذر وقال ابن قتيبة عن ابن منبه عن أبي هريرة قال واشتهى آدم عند موته قطفا من الجنة التي كان فيها بزعمهم على ظهر السماء السابعة وهو في الأرض فخرج أولاده يطلبون ذلك له حتى بلغتهم الملائكة موته فأولاد آدم كانوا مجانين عندكم إن كان ما نقله ابن قتيبة حقا يطلبون لأبيهم ثمر جنة الخلد في الأرض.
قال ونحن لم نقل غير ما قال هؤلاء ولو كانت جنة الخلد، الخلد فيها ونحن استدللنا من القرآن وغيرنا قطع وادعى بما ليس له عليه برهان. فهذا ذكر بعض أقوال من حكى الخلاف في هذه المسئلة ونحن نسوق حجج الفريقين إن شاء الله تعالى ونبين لهم ما لهم وما عليهم.


 

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن لابن القيم الجوزية



حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

 مقدمة
ص -3-  حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا, وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا خلقها لهم قبل أن يخلقهم وأسكنهم إياها قبل إن يوجدهم وحفها بالمكاره وأخرجهم إلى دار الامتحان ليبلوهم أيهم أحسن عملا وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا وأودعها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجلاها لهم حتى عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر وبشرهم بما أعد لهم فيها على لسان رسوله فهي خير البُشر على لسان خير البشر وكمّل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
والحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل إذ لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى ولو يغفلهم هملا بل خلقهم لأمر عظيم وهيأهم لخطب جسيم وعمّر لهم دارين فهذه لمن أجاب الداعي ولم يبغ سوى ربه الكريم بدلا وهذه لمن لم يجب دعوته ولم يرفع بها رأسا ولم يعلق بها أملا.
والحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه دعا عباده إلى دار السلام فعمّهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلا وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلا فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن

ص -4-  أمته ومن لا غنى به طرفة عين فضله ورحمته ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينة على وحيه وخيرته من خلقه أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين بعثه للإيمان مناديا وإلى دار السلام داعيا وللخليقة هاديا ولكتابه تاليا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيزه وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين وعلى منهاجه وطريقته من السالكين.
فسبحان من شرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره فدعا إلى الله وإلى جنته سرا وجهارا وأذّن بذلك بين أظهر الأمة ليلا ونهارا إلى أن طلع فجر الإسلام وأشرقت شمس الإيمان وعلت كلمة الرحمن وبطلت دعوة الشيطان وأضاءت بنور رسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد تفرقها وشتاتها فأشرق وجه الدهر حسنا وأصبح الظلام ضياء واهتدى كل حيران فلما كمل الله به دينه وأتم به نعمته ونشر به على الخلائق رحمته فبلغ رسالات ربه ونصح عباده وجاهد في الله حق جهاده خيّره بين المقام في الدنيا وبين لقائه والقدوم عليه فاختار لقاء ربه محبة له وشوقا إليه فاستأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأرفع الأسنى وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم وعدل الراغبون عن هديه إلى طرق الجحيم:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه كما وحد الله وعبده وعرّفنا به ودعا إليه.

ص -5-  أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم عُرض على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقا ووجلا وقلن ربنا إن أمرتنا فسمعا وطاعة وان خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلا وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله وباء به على ظلمه وجهله فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مؤنته عليهم وثقله فصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم ولا في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار التي هي طريق ومعبر إلى دار القرار ولا يتفكرون في قلة مقامهم في الدنيا الفانية وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية فقد ملكهم باعث الحس وغاب عنهم داعي العقل وشملتهم الغفلة وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة فخدعهم طول الأمل وران على قلوبهم سوء العمل فهمّهم في لذات الدنيا وشهوات النفوس كيف حصلت حصولها ومن أي وجه لاحت أخذوها إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحدانا وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابا من الله ولا رضوانا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
والعجب وكل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه وكل نفس من أنفاسه لا قيمة له إذا ذهب لم يرجع إليه فمطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يحمل ويسار به أعظم من سير البريد ولا يدري إلى أي الدارين ينقل فإذا نزل به الموت أشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته لا لما سبق من جناياته وسلف من تفريطه حيث لم يقدم لحياته فإذا خطرت له خطرة عارضة لما خلق له دفعها باعتماده على العفو وقال قد أنبئنا أنه هو الغفور الرحيم وكأنه لم ينبأ أن عذابه هو العذاب الأليم.

ص -6-  فصل
ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبدلا يزول ولا ينفذ بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا ألآمه تزيد على لذّاته وأحزانه أضعاف مسراته وله مخاوف وآخره متآلف فيا عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار وأبكارا عرابا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد ونداء المنادي يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا وتحيوا فلا تموتوا وتقيموا فلا تظعنوا وتشبوا فلا تهرموا بغناء المغنين:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي   متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة   حبا لذكرك فليلمني اللوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسر والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولي بالكرم

ص -7-  من بين العباد فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر لعلم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعترية الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال.
فهم في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتنعمون وبأنواع الثمار يتفكهون يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعلمون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام ! إلا أفراد من العباد فواعجبا لها كيف نام طالبها وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها وكيف قرت دونها أعين المشتاقين وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين.
شعر في وصف الجنة:
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها  سوى كفئها والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة    وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة  وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها   وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد المز    يد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابة    محب يري أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما   يخاطبهم من فوقهم ويسلم

ص -11-    ولله أبصار ترى الله جهرة   فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة  أمن بعدها يسلو المحب المتيم
ولله كم من خيرة إن تبسمت    أضاء لها نور من الفجر أعظم
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت    ويا لذة الأسماع حين تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت  ويا خجلة الفجرين حين تبسم
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها    فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
ولا سيّما في لثمها عند ضمها  وقد صار منها تحت جيدك معصم
تراه إذا أبدت له حسن وجهها    يلذ به قبل الوصال وينعم
تفكه منها العين عند إجتلائها    فواكه شتى طلعها ليس يعدم
عناقيد من كرم وتفاح جنة    ورمان أغصان به القلب مغرم
وللورد ما قد ألبسته خدودها  وللخمر ما قد ضمه الريق والفم
تقسم منها الحسن في جمع واحد فيا عجبا من واحد يتقسم
لها فرق شتى من الحسن أجمعت بجملتها إن السلو محرم
تذكر بالرحمن بمن هو ناظر   فينطق بالتسبيح لا يتلعثم
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها  تولي على أعقابه الجيش يهزم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغبا   فهذا زمان المهر فهو المقدم
ولما جرى ماء الشاب بغصنها    تيقن حقا انه ليس يهرم
وكن مبغضا للخائنات لحبها   فتحظى بها من دونهن وتنعم
وكن أيما ممن سواها فإنها   لمثلك في جنات عدن تأيم
وصم يومك الأدنى لعلك في غد  تفوز بعيد الفطر والناس صوم
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص  فما فاز باللذات من ليس يقدم
وأن ضاقت الدنيا عليك بأسرها   ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحي على جنات عدن فأنها  منازلها الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى  نعود إلى أوطاننا ونسلم

ص -12-   وقد زعموا أن الغريب إذا نأى   وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي  لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي   المحـبـون ذاك السوق للقوم تعلم
فما شئت خذ منه بلا ثمن له    فقد أسلف التجار فيه واسلموا
وحي على يوم المزيد الذي به   زيارة رب العرش فاليوم موسم
وحي على واد هنالك أفيح    وتربته من إذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة  ومن خالص العقيان لا تتقصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا   لمن دون أصحاب المنابر يعلم
فبينا هموا في عيشهم وسرورهم  وأرزاقهم تجري عليهم ونقسم
ذاهم بنور ساطع أشرقت له  بأقطارها الجنات لا يتوهم
تجلى لهم رب السماوات جهرة  فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم    بآذانهم تسليمه إذ يسلم
يقول سلوني ما أشتهيتم فكل ما   تريدون عندي أنني أنا أرحم
فقالوا جميعا نحن نسألك الرضا  فأنت الذي تولى الجميل وترحم
فيعطيهم هذا ويشهد جميعهم  عليه تعالى الله فالله أكرم
فيا بائعا هذا ببخس معجل    كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة   وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فصل
وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه فهو للمحزون سلوة وللمشتاق إلى تلك العرائس جلوة محرك للقلوب إلى أجل مطلوب وحاد للنفوس إلى مجاورة الملك القدوس ممتع لقارئه مشوق للناظر فيه لا يسأمه الجليس ولا يمله الأنيس مشتمل من بدائع الفوائد وفرائد القلائد على ما لعل المجتهد في الطلب لا يظفر به فيما سواه من الكتب مع تضمينه
ص -13-   لجملة كثيرة من الأحاديث المرفوعات والآثار الموقوفات والأسرار المودعة في كثير من الآيات والنكت البديعات وإيضاح كثير من المشكلات والتنبيه على أصول من الأسماء والصفات إذا نظر فيه الناظر زاده إيمانا وجلى عليه الجنة حتى كأنه يشاهدها عيانا فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات وباعث الهمم العليات إلى العيش الهني في تلك الغرفات.
وسميته حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح فإنه اسم يطابق مسماه ولفظ يوافق معناه والله يعلم ما قصدت وما بجمعه وتأليفه أردت فهو عند لسان كل عبد وقلبه وهو المطلع على نيته وكسبه وكان جل المقصود منه بشارة أهل السنة بما أعد الله لهم في الجنة فإنهم ! المستحقون للبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ونعم الله عليهم باطنة وظاهرة وهم أولياء الرسول وحزبه ومن خرج عن سنته فهم أعداؤه وحربه لا تأخذهم في نصرة سنته ملامة اللوام ولا يتركون ما صح عنه لقول أحد من الأنام والسنة أجل في صدورهم من أن يقدموا عليها رأيا فقهيا أو بحثا جدليا أو خيالا صوفيا أو تناقضا كلاميا أو قياسا فلسفيا أو حكما سياسيا فمن قدم عليها شيئا من ذلك فباب الصواب عليه مسدود وهو عن طريق الرشاد مصدود.
فيا أيها الناظر فيه لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ولك صفوه وعليه كدره وهذه بضاعته المزجاة تعرض عليك وبنات أفكاره تزف إليك فإن صادفت كفؤا كريما لم تعدم منه إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان وإن كان غيره فالله المستعان فما كان من صواب فمن الواحد المنان وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله برئ منه ورسوله.
 وقد قسمت الكتاب سبعين بابا
 
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
 الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن
ص -11-   الباب الأول: في بيان وجود الجنة الآن
لم يزل أصحاب رسول الله والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فإنهم دعوا الأمم إليها وأخبروا بها إلى أن نبغت نابغة من القدرية والمعتزلة فأنكرت أن تكون مخلوقة الآن وقالت بل الله ينشئها يوم القيامة وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة فيما يفعله الله وأنه ينبغي له أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا وقاسوه على خلقه في أفعالهم فهم مشبهة في الأفعال ودخل التجهم فيهم فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات وقالوا خلق الجنة قبل الجزاء عبث فإنها تصير معطلة مددا متطاولة ليس فيها سكانها.
قالوا ومن المعلوم أن ملكا لو أتخذ دارا وأعد فيها ألوان الأطعمة والآلات والمصالح وعطلها من الناس ولم يمكنّهم من دخولها قرونا متطاولة لم يكن ما فعله واقعا على وجه الحكمة ووجد العقلاء سبيلا إلى الاعتراض عليه فحجروا على الرب تعالى بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وشبهوا أفعاله بأفعالهم وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب أو حرفوها عن مواضعها وضللوا وبدعوا من خالفهم فيها والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء.
ولهذا يذكر السلف في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان ويذكر من صنف في المقالات أن هذه مقالة أهل السنة والحديث قاطبة لا يختلفون.
فيها قال أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المضلين:

ص -12-   "جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله لا يردّون من ذلك شيئا وأن الله تعالى إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن له يدين بلا كيف كما قال:{خلقت بيدي} وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام} وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وكما قال:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما تعتقد المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وقالوا إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله تعالى وأن أفعال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله تعالى يقدر أن يصلح

ص -13-   الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره وحلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال.
ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ فمن قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله تعالى محجوبون قال الله تعالى:
{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}وأن موسى عليه السلام سال الله سبحانه وتعالى الرؤية في الدنيا وإن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر.
وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب ويقرون بشفاعة رسول الله وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله لعباده حق والوقوف بين يدي الله تعالى حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق.
ويقولون أسماء الله هي الله تعالى ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر

ص -14-   بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله تعالى ينزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله وينكرون الجدال والمرآء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة.
ويقولون إن الله تعالى لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشرك وأن كان مريدا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبه نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله عنهم ويقرون بأنهم الخلفاء الراشدين المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد رسول الله ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله أن الله:"ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر" كما جاء في الحديث عن رسول الله ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}.
ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وان لا يتبعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال:
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}.
ويرون العيدين والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر أو فاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ

ص -15-   بعث الله نبيه إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون أن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى وأن السحر كان موجود في الدنيا.
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله وإن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ بالقرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله تعالى عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمور بيد الله تعالى.
ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله تعالى والإنتهاء عمى نهى الله عنه وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والازدراء على الناس والعجب.
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المآكل والمشارب فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير.
والمقصود حكايته عن جميع أهل السنة والحديث أن الجنة والنار مخلوقتان

ص -16-   وسقنا جملة كلامه ليكون الكتاب مؤسسا على معرفة من يستحق البشارة المذكورة وأن أهل هذه المقالة هم أهلها وبالله التوفيق.
وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الإسراء وفي آخره: "ثم أنطلق بي جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي قال ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة".
وفي المسند وصحيح الحاكم وابن حبان وغيرهم من حديث البراء ابن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فذكر الحديث بطوله وفيه
"فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة, قال: فيأتيه من روحها وطيبها" وذكر الحديث.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل قال فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال فيقولان له أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا في الجنة" قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فيراهما جميعا".

ص -17-   وفي صحيح أبي عوانة الاسفرايني وسنن أبي داود من حديث البراء بن عازب الطويل في قبض الروح "ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقال هذا كان منزلك لو عصيت الله تعالى أبدلك الله به هذا فإذا رأى ما في الجنة قال رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي فيقال أسكن".
وفي مسند البزار وغيره من حديث أبي سعيد قال شهدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:" أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا دفن الإنسان وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده رسوله فيقولون له صدقت ثم يفتح له باب إلى النار فيقولون هذا كان منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت به فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض إلى الجنة فيقولون له اسكن". وذكر الحديث.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث إلى أن قالت ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة".
 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:"رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم حتى لقد رأيتني آخذ قطعا من الجنة حين رأيتموني أقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها حين رأيتموني تأخرت".
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله فذكر الحديث وفيه قال:
"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله". فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت فقال:"إني رأيت الجنة وتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم

ص -18-   منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء:. قالوا بم يا رسول قال: " بكفرهن" قيل: أيكفرن بالله قال:" يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط".
وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف قال: "
قد دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها ودنت مني النار حتى قلت أي رب وأنا معهم فإذا امرأة حسبت أنه قال تخدشها هرة قلت ما شأن هذه قالوا حبستها حتى ماتت جوعا لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل".
وفي صحيح مسلم من حديث جابر في هذه القصة قال: "
عرضت على كل شيء تولجونه فعرضت على الجنة حتى تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه وعرضت على النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها". وذكر الحديث.
وفي صحيح مسلم عنه في هذا الحديث
"ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبة في النار وكان يسرق الحاج بمحجنه فإذا فطن له قال إنما تعلق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه".
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو وفي هذه القصة
"والذي نفس محمد بيده لقد أدنيت الجنة حتى لو بسطت يدي

ص -19-   لتعاطيت من قطوفها ولقد أدنيت النار منى حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم" وذكرالحديث.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ أقيمت الصلاة فقال: "
يا أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا ترفعوا رؤسكم فإني أراكم من أمامي ومن خلفي وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قالوا وما رأيت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت الجنة والنار".
وفي الموطأ والسنن من حديث كعب ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة" وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة ومثله حديث كعب بن مالك أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق في ثمر الجنة أو شجر الجنة" رواه أهل السنن وصححه الترمذي.
وسيأتي في آخر هذا الكتاب في الباب الذي يذكر فيه دخول أرواح المؤمنين الجنة قبل يوم القيامة تمام هذه الأحاديث أن شاء الله تعالى وذكر دلالة القرآن على ما دلت عليه السنة من ذلك.
وفي صحيح مسلم والسنن والمسند من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لما خلق الله تعالى الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال أذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر الجنة فحفت بالمكاره فقال فارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فنظر إليها ثم رجع فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد قال: ثم أرسله إلى النار قال أذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضا ثم رجع فقال وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها فأمر بها فحفت بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب

ص -20-   فنظر إليها فرجع فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة
"حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات" وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة يا رب ما لها إنما يدخلها ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار يا رب ما لها يدخلها الجبارون والمتكبرون فقال أنت رحمتي أصيب بك من أشاء وأنت عذأبي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها".
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم"
أنه قال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف"
وروى الليث بن سعد عن معاوية ابن صالح عن عبد الملك بن بشير ورفع الحديث قال:"
ما من يوم إلا والجنة والنار يسألان تقول الجنة يا رب قد طاب ثمري واطردت أنهاري واشتقت إلى أوليائي فعجل إلي بأهلي وتقول النار أشتد حري وبعد قعري وعظم جمري فعجل علي بأهلي".
وفي صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"
بينما أنا أسير في الجنة وإذا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر".
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ودارا فقلت لمن هذا فقيل لرجل من قريش فرجوت أن أكون أنا هو فقيل لعمر بن الخطاب فلولا غيرتك

ص -21-   يا أبا حفص لدخلته" قال فبكى عمر وقال: أويغار عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي حديث بلال وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك بين يدي" وغير ذلك من الأحاديث التي تأتي إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الله بن وهب أنبأنا معاوية بن صالح عن عيسى بن عاصم عن زر بن حبيش عن أنس بن مالك قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة الصبح ثم مد يده ثم أخرها فلما سلم قيل له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صنعت في صلاتك شيئا لم تصنعه في غيرها قال:
" أني رأيت الجنة فرأيت فيها دالية قطوفها دانية حبها كالدباء فأردت أن أتناول منها فأوحي إليها أن استأخري فستأخرت ثم رأيت النار فيما بيني وبينكم حتى لقد رأيت ظلي وظلكم فأومأت إليكم أن استأخروا فأوحى إلي أقرهم فإنك أسلمت وأسلموا وهاجرت وهاجروا وجاهدت وجاهدوا فلم أر لي عليكم فضلا إلا بالنبوة".
فإن قيل فما منعكم عن الاحتجاج على وجودها الآن بقصد آدم ودخوله الجنة وإخراجه منها بأكله من الشجرة والاستدلال بها في غاية الظهور قيل الاستدلال بذلك وإن كان عند العامة في غاية الظهور فهو في غاية الغموض لاختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم هل كانت جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة أو كانت جنة في الأرض في شرفها ونحن نذكر من قال بهذا ومن قال بهذا وما احتج به كل فريق على قولهم وما رد به الفريق الآخر عليهم بحول الله وقوته.